خلاصة:
إن إجراء دراسة تامة للنتاج الفقهی الإمامی خلال القرون الأولی یکاد یعد ضمن السهل الممتنع؛ و ذلک لقلة المصادر و المراجع، بل لشح المصادر الموثوقة التی یمکن الاعتماد علیها فی مثل هذه الدراسة، و کذا لحجم التحولات المهمة التی عاشها الفقه الإمامی فی بنیاته الفکریة. لکن یمکن ولوج ساحة هذا البحث من خلال تتبع مواضع استعمال الاستدلال الفقهی، و کیفیة تعامل الفقهاء مع الأدلة الشرعیة التی تکشف بشکل نسبی تمایزا بین الفقهاء بلحاظ نظریاتهم و مبانیهم الفقهیة. و مما لا شک فیه أن المعرفة العمیقة بتاریخ الفقه الإمامی خلال القرون الأولی من تاریخ الإسلام تستلزم البحث فی اتجاهات الفقهاء، و اختلاف مبانیهم و نظریاتهم. فی هذا المقال نسعی إلی تتبع حلقات اجتهاد الفقهاء، و الاطلاع علی منهج و أسلوب کل واحد منهم، و بالتالی تشخیص مبانیهم المختلفة. و یلاحظ بشکل محسوس فی هذه الفترة انعقاد حلقات الاجتهاد فی وسط الفقهاء. هذه الحلقات الاجتهادیة التی ما لبثت أن جوبهت بتحرکات التیار المضاد، الذی بدأت تتصاعد و تیرته، فی النصف الأخیر من القرن الثالث الهجری، فی وسط المحدثین و المتکلین علی السواء.
ملخص الجهاز:
ومن دون الاستغراق في تعريف الفقه؛ لأنه ليس محلّ بحثنا، لكنْ لتشخيص حدود الموضوع نقول: إن الفقه المقصود هنا بالبحث بشكلٍ مجمل هو كل أشكال البحث في مسائل آداب وأحكام العبادات، المعاملات وتدبير أمور الدولة والرعية، وبعبارةٍ أخرى: الفقه المقصود في هذا المقال هو أعمّ من الفقه الاستدلالي، يعني كل أنواع الفقه التي توسَّعت فيما بعد، والتي تتناسب وما كان موجوداً خلال القرنين الثاني والثالث، ليكون كذلك الفقه الروائي حاضراً في هذا البحث بشكلٍ قويّ، من دون الخلط بين علم الفقه وعلم الحديث؛ كون البحث هنا مقتصرٌ على الفقه الإمامي خلال المئة الثانية والثالثة بشكلٍ مفصَّل وموسَّع، لكنّ الحقيقة أنه في العصر الحاضر الطريق الوحيد للاطّلاع على جوانب النظام الفقهي في تلك الفترة يبقى هو التقريرات والمعلومات التي حملتها الروايات في الكتب الأربعة وباقي المجاميع الحديثية الفقهية الأخرى، وضمن ما بقي من مؤلَّفات تلك الفترة المحدودة وقليلة العدد.
وفي هذه التقريرات غالباً ما نرى أن فتاوى وأحكام الفقهاء يتمّ إرجاعها إلى أئمة أهل البيت^، ولذا لا يمكن أن تكون الروايات الفقهية مبينة بشكل مباشر لآراء الفقهاء واتجاهاتهم، لكنْ في المسائل التي يلاحظ فيها نقل روايتين أو أكثر مختلفتين عن الأئمّة^ فإنّ اختيار وانتخاب الرواة الذين قد يكونون ضمناً من الفقهاء الكبار لا يمكن أن نعدّه أمراً اتّفاقياً، بل يمكن أن يكون ناتجاً عن أسلوبٍ نظريّ، وعن تحقيقات وتتبُّعات علمية، وبالتالي إن انتخاب الرواة واختيار البعض دون البعض الآخر يمكن أن يكون مصدراً كاشفاً عن اتجاهات الرواة الفقهاء، فتصبح الاتجاهات المخفية لدى فقهاء تلك الفترة منكشفة من خلال انتخاب رواة كتبهم ودفاترهم الحديثية الفقهية.