خلاصه ماشینی:
"ما لنا ولکلام الناس وأفعالهم ، إننا نعلم بالنظر والاختبار أن إقناع جمیعطبقات الناس بنفع الفضائل وضرر الرذائل وحملهم علی العمل المطرد فی ذلک ممالا سبیل إلیه ، ولا مطمع فیه ، فالولدان لا یعقلونه ، وبلداء العوام وجماهیر الشعوبالهمجیة لا یقتنعون به ، وأکثر الأذکیاء یجعلون أنفسهم معیار المنافع والمضار ،فیؤثرون ما ینفعهم وإن أضر بغیرهم ، ویطبقون ذلک علی قانون فضیلة المنافعبالتأویل ، فإذا قدر الواحد منهم علی أکل مال غیره بالباطل أو خیانته فی عرضهوأمن اطلاع الناس علیه خان فی المال والعرض ، وأول ذلک فی نفسه بأنه هو أحقبالمال وأجدر به ؛ لأنه یضعه فی مصارفه التی هی أنفع للناس وله ، ویزعم أنصاحب المال لا یقدر علی أن یأتی بمثل نفعه وعمله ، ولا یأبی أن یقول : إنالخیانة فی العرض لا ضرر فیها ، لأنه یفسر الفضائل والرذائل بحسب الشهوةوالهوی ، وقد صرح أمامی من یعد فی الطبقة العلیا من حریة الفکر بأن أکل مالالناس بالباطل - أی بدون مقابل ولا تراض - یعد من الفضیلة ، إذا کان سارقه أوناهبه أو الخائن فیه ینفقه فیما یراه أنفع للهیئة الاجتماعیة مما ینفقه فیه صاحبالمال ، ولا یخفی علی عاقل أن الناس یختلفون اختلافا کبیرا فی النافع والأنفعوضدهما ، فما یراه بعضهم نافعا یستحق الشکر قد یراه بعضهم ضارا یستحق فاعلهالقتل ، فإذا لم یکن لهم دین یحکم کتابه بین الناس فیما إختلفوا فیه ، وجروا علیاستباحة کل منهم ما یری أنه ینفع به ما لا ینفع غیره ، ألا یکونون فی فوضیوخیانة تفسد علیهم أمرهم ، حتی یأذن الله بهلاکهم ؟یقول غوستاف لوبون فی کتابه ( روح الاجتماع ) : إن بعض القضاة عندهمفی ( فرنسة ) أحصی عدد المجرمین الذین حکمت علیهم محکمة الجنایات , فکانثلاثة أرباعهم من المتخرجین فی المدارس العالیة والربع من عوام الناس ، ونحننعلم أن الذین لا یجرمون من هؤلاء المتعلمین المادیین لا یصدهم عن الإجراموالجنایة الفضیلة , وإنما یصد بعضهم خوف الفضیحة أو عقاب الحکومة إذا ظهرتالجنایة ، وبعضهم اشتغاله بعمل یصرف عنها ، وعن الشعور بالحاجة إلیها ،وبعضهم تأثیر التربیة الدینیة الأولی ، ولا یکاد یتعفف عن الرذیلة أحد تدفعه شهوتهإلیها وتقربه أسبابها منها ، إلا المتدین الذی یراقب الله تعالی ویخشاه ، أو الفیلسوفالعالی النفس إذا ثبت عنده أنها رذیلة ، وإلا فإننا نری سیرة کثیر من الفلاسفة ملوثةبالرذائل الکثیرة ، وهذا من معنی قولنا : إن الفضیلة القائمة علی قواعد الدین تکونعامة ینتفع بها جمیع طبقات البشر فی بداوتهم وحضارتهم بقدر حظهم منها ، وأماالفضیلة العقلیة النفعیة المحضة فلا تکون إلا خاصة ببعض أفرادهم الممتازین ،علی ما یعرض فیها من سوء التأویل ."