خلاصه ماشینی:
"أو لیس خلیقا بنا،نحن المثقفین،أن نبحث عن کنوزنا حتی نغنی و نستغنی بها عن سحوت الآخرین؟ و أن نمد جذورنا فی أعماق تربتنا حتی لا تقتلعنا الریاح الشرقیة أو الغربیة و ما علینا بعدها أن نستقبل الشمس و الهواء من الشرق أو الغرب؟ بحثنا فی المحاضرة السابقة1،فی أساس حق العقاب فی أوروبا،و انتهینا الی القول بأن المدرستین الفقهیتین التقلیدیة و الوضعیة،تمحورتا حول نظریة الجبر و الاختیار،لیبنیا علیها حق توقیع العقاب علی المجرم اذا کان مخیرا،أو حق علاجه و رعایته اذا کان میسرا،و ان المدارس الأخری لم تقف موقفا وسطا بینهما،بل عمدت کل مدرسة منه الی الأخذ من کلتیهما بما یتفق مع مذاهبها الذاتیة،غیر ان جمیع هذه المدارس بما فیها مدرسة الدفاع الاجتماعی الحدیثة التی ثارت علی جمیع المفاهیم الجزائیة القدیمة و الجدیدة،و اسقطت من قانونها العقابی کلمة الجریمة و استبدلت بها عبارة-الانحراف الاجتماعی-کما حذفت منه کلمة العقوبة و استعاضت عنها بعبارة-تدبیر الدفاع الاجتماعی،أقول إن جمیع هذه المدارس لم تتنکر مطلقا لمبدأ حق العقاب،بل احتفظت بجوهره رغم خلافها علی مظهره،فاتفقت بذلک مع المدرسة الاسلامیة القائلة:(و لکم فی القصاص حیاة یا أولی الألباب).
هذا من ناحیة،و من ناحیة أخری،فإن القوانین العقابیة الأوروبیة کلها،لم تعر انتباها الی جدل المدارس الفقهیة حول فلسفة الجبر و الاختیار بل تبنت عملیا و لا تزال،نظریة المدرسة التقلیدیة المؤمنة بحریة الانسان و اختیاره،دون ان تهمل العوارض التی قد تحد من هذه الحریة أو تلغیها،فاتفقت ایضا بذلک مع المدرسة الفقهیة الاسلامیة القائلة علی لسان فقیهها العظیم الامام جعفر الصادق«لا جبر و لا تفویض و لکن أمر بین بین»؛و قد أراد الامام جعفر أن یقرر بأن الانسان یفعل أو یترک بالقدرة التی زوده الله بها،أی أنه خالق لجمیع أفعاله و مسؤول بالتالی عنها،لأنه لو لم یکن خالقا لها،کما یزعم الجبریون لبطلت علة التکلیف."