خلاصه ماشینی:
"و هذا التقسیم إلإجمالی یقدم الینا فکرة عما یری ابن خلدون أنه مادة لهذا العلم الذی یسمیه بالعمران أو الاجتماع البشری،و فیه یبدو کیف أن ابن خلدون قد استوعب فی مقدمته کل أنواع البحوث الاجتماعیة عامة کانت أو خاصة؛فقد تلکم عما یسمی حدیثا بالمور فولوجی،و عن النظم الاجتماعیة،فهو قد حاول أن یتنبع المجتمع بالدرس و التحلیل فی جمیع أطواره منذ نشأته و بداوته الی استقراره و انتظامه فی المصر و الدولة و تردده بین القوة و الضعف و الفتوة و الکهولة و النهوض و السقوط،و استقصی خلال ذلک أحوال هذا المجتمع و خواصه و عناصر تکوینه و تنظیمه من الفرد و الجماعة الی السلطان و الدولة،و ما یعرض لهذه العناصر فی حیاتها الخاصة و العامة من الظروف و الأحوال،و ما تقتضیه سلامة هذا المجتمع،و ما یؤذن بفساده و انحلاله؛و تلکم أیضا عن الأسرة مبینا الصلات التی تقوم بین أفراد الأسرة و روابط الدم و النسب و الاجتماع الاقتصادی شارحا کیف تؤثر الظواهر الاقتصادیة فی المجتمع و الاجتماع القضائی أی عن المسئولیة و الأسباب التی تبررها و تدعو للأخذ بها،الاجتماع اللغوی أی عن عوامل انتشار اللغة و ظهورها ثم انقراضها،و الاجتماع الأخلاقی أی عن الأحداث و العوامل الخلقیة و کیفیة رجوعها الی المجتمع،و الاجتماع السیاسی أی عن شکل الدولة و الحکومة....
و بالجملة قد تناول ابن خلدون جمیع فروع علم الاجتماع بالکلام و هی و إن لم نجدها عنده مفصلة کما هی الحال فی المدرسة الفرنسیة الحدیثة إلا أننا نجد بذورا لها ما کان ینقصها إلا موالاة البحث لاستکمال العلم و تنظیمه و تبویبه و ابن خلدون لا یسلم بأن الحوادث تتعاقب مصادفة دون انتظام،فالظواهر الاجتماعیة التی هی لیست مستقلة بعضها عن بعض بل متماسکة الأجزاء متضامنة الأطراف تسیر وفق قوانین شبیهة بالقوانین الطبیعیة التی لها الجبر و الالزام،و ما التناقض الذی یقع فیه المؤرخون فی قصص التاریخ إلا نتیجة لعدم ملاحظتهم هذه القوانین و عدم تطبیقهم إیاها علی الظواهر الاجتماعیة."