خلاصه ماشینی:
"المرحلة الثالثة: والحدیث عن هذه المرحلة حول المدینة منذ وفاة النبـی(ص) وحتی انتقال الخلافة الی الکوفة سنة 36 للهجرة المبارکة: فقد استطاعت المدینة ان تحتفظ باعتبارها وأهمیتها ومرکزیتها السیاسیة والعسکریة والاقتصادیة والاداریة الی ما بعد وفاة النبـی(ص) وحتی عهد الخلفاء الراشدین الثلاثة ابـی بکر، وعمر، وعثمان، مع العلم ان اهمیة المدینة الثقافیة استمرت لقرون بعدها، فاننا لانستطیع ان نبحث هذا الاعتبار وتلک الاهمیة فـی المصادر التأریخیة المرتبطة بصدر الاسلام فحسب، بل نجد انه اساس التنظیم والتدوین للقسم العظیم من الکتب الجغرافیة التأریخیة فـی المدرسة البلخیة التـی بدأ فیها وصف البلاد بوصف المدینة، یشیر المقدسی5 الی ذلک بالقول: لقد بدأت بالجزیرة العربیة لأن فیها بیت الله ومدینة النبـی(ص)، ومنها انطلق الدین الاسلامی، والخلفاء الراشدون، والاصحاب، والانصار، والمهاجرون قطنوا فیها، ورایات الاسلام قد ارتفعت فیها فاستقر الدین تمام الاستقرار.
کان انتشار و توسع الفتوحات فـی عهد الخلیفة الثانـی، وخاصة فتح الحدود الشرقیة للجزیرة العربیة، واهتمام المسلمین بفتح ایران نقطة انطلاق للتحول والتغییر الشامل، حیث کانت النتیجة الاهم لهذه الفتوحات بشکل عام، وانتقال المعانـی الباطنیة للاسلام، والمیراث النبوی من داخل الجزیرة العربیة الی خارجها، تزامنا مع هذا الانتقال هاجر اصحاب النبـی(ص) الی البلاد والمدن المفتوحة فـی مناطق الشام وبلاد ما بین النهرین، وایران، کانوا یحملون لواء الاسلام من جهة، والقدرة السیاسیة والعسکریة للدولة الاسلامیة من جهة اخری، وببیان أدق نستطیع القول بان تیار الفتوحات سلـب الاهمیة السیـاسیة والاقتصادیـة والاجتماعیة من الحجـاز تدریجیا ونقلهـا الی المناطق المفتوحة، وهذا مما أدی الـی انزواء الحجاز سیاسیا وبعد هذا الانعزال السیاسی استـطاع الحجاز وفـی مرکزه المـدینة المنورة ان یعیش حیاته الثقـافیة فقط فـی بعض الفروع العلمیة: کالحدیث، والسیرة، والتـفسیر، والـعلوم القرآنیة، والفقه، بعیدا عن الضجیج السیاسی المخیم علی بـلاد الشـام والعراق، کما ان المدینة کانت تقـلیدیة فـی مـواجهة الآراء الحدیثة فـی مجـال العلم والثقافة فـی معظم الاحیان."